الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ} وإنك لو فعلت ذلك علنًا فستعطي الأسوة لغيرك أن يفعل. والله قد أطلعك على ما في قلوب هؤلاء من الكفر أما غيرك فلا يطلعه الله على غيب ولو رمى أحدًا بذنب أو كفر فلعله لا يصادف الحق والواقع وتشريعنا يقول لنا: «ادرأوا الحدود بالشبهات».والتطبيق لهذا التشريع نجده عندما يتم القبض على سارق، لكن هناك شبهة في الاتهام، هذه الشبهة يجب أن تفسر في صالح المتهم، وندرأ الحد لوجود شبهة؛ فليس من مصلحة المسلمين أن نقول كل يوم: إننا قطعنا يد سارق أو رجمنا زانية. لكن إذا افتضحت الجرائم وليس في ارتكابها شبهة والمسألة واضحة فلابد أن نضرب على أيدي المجرمين.فنحن ندرأ الحد بالشبهة حتى لا نلحق ضررًا أو ننال من بريء، ونطق الحد حتى يرتدع كل من تسول له نفسه أمرًا محرّما حتى لا يرتكب الأمر المحرّم. وعندما يقام الحدّ في أي بيئة، فإنه لا يقام إلا لفترة قليلة وتتراجع بعدها الجرائم، ولا يرى أحد سارقًا أو زانيًا.إذن فقول الله: {وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} يعني: قل لهم ما يهددهم تهديدًا يصل إلى أعماق نفوسهم، أو {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ} بأن تكشف مستورات عيوبهم أو قل لهم في أنفسهم بينك وبينهم؛ لأن هذا أدعي إلى أن يتقبلوه منك ولا يوغر صدورهم ويثير فيهم غريزة العناد. اهـ.
يُرِيدُ مَا وَعَدَ، وَأَرَى أَنَّ الْقَافِيَةَ اضْطَرَّتْهُ إِلَى اسْتِعْمَالِ هَذَا الْحَرْفِ هُنَا، وَمَا هُوَ بِمَكِينٍ، وَوَعْدُهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا، وَقَالَ اللَّيْثُ: سَمِعْتُ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ إِذَا قِيلَ: ذَكَرَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ لِأَمْرٍ يُسْتَيْقَنُ أَنَّهُ حَقٌّ، وَإِذَا شَكَّ فِيهِ فَلَمْ يَدِرْهُ لَعَلَّهُ كَذِبٌ أَوْ بَاطِلٌ، قِيلَ: زَعَمَ فُلَانٌ كَذَا، وَقِيلَ: الزَّعْمُ الظَّنُّ، وَقِيلَ: الْكَذِبُ، وَكُلُّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنَ اخْتِلَافِ الِاسْتِعْمَالِ بِنَظَرِ الْقَائِلِ إِلَى بَعْضِ كَلَامِ الْعَرَبِ دُونَ بَعْضٍ، وَالَّذِي يَنْظُرُ فِي مَجْمُوعِ اسْتِعْمَالَاتِهَا لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ يَجْزِمُ بِأَنَّ الْأَكْثَرَ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِيمَا لَا يُجْزَمُ بِهِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا، وَقَالَ الرَّاغِبُ: الزَّعْمُ حِكَايَةُ قَوْلٍ يَكُونُ مَظَنَّةً لِلْكَذِبِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذَمُّ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَأَشَارَ إِلَى بَعْضِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ، وَنَحْنُ نَزِيدُ عَلَيْهِ فِي بَيَانِهَا، قَالَ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [64: 7]، وَقَالَ: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [6: 94]، وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} [17: 56]، وَقَالَ: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} [18: 52]، وَبَقِيَ آيَاتٌ أُخْرَى مُسْتَعْمَلَةً هَذَا الِاسْتِعْمَالَ، فَلُغَةُ الْقُرْآنِ أَنَّ الزَّعْمَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى الزَّاعِمِينَ وَلَا يُقِرُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ.وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ أَيْ: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ فِي التَّنْزِيلِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ، فَهَذَا التَّنْزِيلُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِنَصِّ الْخِطَابِ أَوْ فَحْوَاهُ، قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [1: 36]، الْآيَةَ، وَهِيَ نَصٌّ فِي أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ أَتْبَاعَهُ بِاجْتِنَابِ الطَّاغُوتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [2: 256]، إِلَخْ الْآيَتَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الزَّاعِمِينَ تَدَّعِي أَلْسِنَتُهُمُ الْإِيمَانَ بِاللهِ، وَبِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ، وَتَدُلُّ أَفْعَالُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاللهِ وَإِيمَانِهِمْ بِالطَّاغُوتِ وَإِيثَارِهِمْ لِحُكْمِهِ.وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ أَنَّ الشَّيْطَانَ- الَّذِي هُوَ دَاعِيَةُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ- يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَقِّ مَسَافَةً بَعِيدَةً فَيَكُونَ ضَلَالُهُمْ عَنْهُ مُسْتَمِرًّا؛ لِأَنَّهُمْ لِشِدَّةِ بُعْدِهِمْ عَنْهُ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ.قِيلَ لَهُ: فَمَا تَقُولُ فِي هَذِهِ الْمَحَاكِمِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ؟ قَالَ: تِلْكَ عُقُوبَةٌ عُوقِبَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ أَنْ خَرَجُوا عَنْ هِدَايَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} فَإِذَا كُنَّا قَدْ تَرَكْنَا هَذِهِ الْهِدَايَةَ لِلْقِيلِ وَالْقَالِ وَآرَاءِ الرِّجَالِ مِنْ قَبْلِ أَنْ نُبْتَلَى بِهَذِهِ الْقَوَانِينِ وَمُنَفِّذِيهَا، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ آرَاءِ فُلَانٍ وَآرَاءِ فُلَانٍ وَكُلُّهَا آرَاءٌ مِنْهَا الْمُوَافِقُ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنْهَا الْمُخَالِفُ لَهَا؟ وَنَحْنُ الْآنَ مُكْرَهُونَ عَلَى التَّحَاكُمِ إِلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ، فَمَا كَانَ مِنْهَا يُخَالِفُ حُكْمَ اللهِ تَعَالَى يُقَالُ فِيهِ، أَيْ: فِي أَهْلِهِ: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [16: 106]، الْآيَةَ، وَانْظُرْ إِلَى مَا هُوَ مَوْكُولٌ إِلَيْنَا إِلَى الْآنَ كَالْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ الْوَالِدِينَ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَزْوَاجِ وَالزَّوْجَاتِ فَهَلْ نَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ؟ إِذَا تَنَازَعَ عَالِمَانِ مِنَّا فِي مَسْأَلَةٍ، فَهَلْ يَرُدَّانِهَا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ أَمْ يَرُدَّانِهَا إِلَى قِيلٍ وَقَالَ؟ فَهَذَا يَقُولُ: قَالَ الْحَمَلُ، وَهَذَا يَقُولُ: قَالَ الصَّاوِي، وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، انْتَهَى مَا كَتَبَهُ عَنْهُ فِي الدَّرْسِ وَكَتَبْتُ فِي آخِرِهِ يَوْمَئِذٍ يُحَرَّرُ الْمَوْضُوعُ وَمُرَادُهُ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا قَوْلَ لِأَحَدٍ فِي قَضِيَّةٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ مَعَ وُجُودِ نَصٍّ فِيهَا مِمَّا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ، أَوْ مَا قَضَى بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِذْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ تَرَكُوا مَا جَرَى عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنَ النَّظَرِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ فِي كِتَابِ اللهِ أَوَّلًا، ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ وَفِي رَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَيْهِمَا، بَلْ عَمِلُوا بِآرَاءِ النَّاسِ الَّذِينَ يَنْتَمُونَ إِلَيْهِمْ، وَيُسَمُّونَهُمْ عُلَمَاءَ مَذَاهِبِهِمْ، وَإِنْ وُجِدَ نَصُّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ مُخَالِفًا لَهُ، وَيُحَرِّمُونَ الرُّجُوعَ إِلَى هَذِهِ النُّصُوصِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الِاجْتِهَادِ الْمَمْنُوعِ عِنْدَهُمُ الَّذِي يُعَدُّ الْمُتَصَدِّي لَهُ ضَالًّا مُضِلًّا فِي نَظَرِهِمْ، وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ اجْتِنَابُ تَقْدِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ وَرَأْيٍ أَنْ سَلِسَ الْمُسْلِمُونَ لِحُكَّامِهِمْ فِي مِثْلِ مِصْرَ، حَتَّى انْتَقَلُوا بِهِمْ مِنَ الْحُكْمِ يَقُولُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ مِنَ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ أَهْلَ الْفِقْهِ وَيَأْخُذُونَ بِمَا فِي كُتُبِهِمُ ابْتِدَاءً- وَافَقَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمْ خَالَفَهَا- إِلَى الْحُكْمِ بِقَوْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ مِنْ وَاضِعِي الْقَوَانِينِ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُتَحَاكِمُونَ إِلَى رِجَالِ الْقَانُونِ أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمُتَحَاكِمِينَ إِلَى أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ، وَهُمُ الْآنَ أَقْدَرُ عَلَى تَحْكِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَفِي مَحَاكِمِهِمُ الشَّرْعِيَّةِ مِنْهُمْ عَلَى تَحْكِيمِهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالْعُقُوبَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي هَذَا تَحْتَ سَيْطَرَةِ الْأَجَانِبِ الْأَقْوِيَاءِ، وَأَمَّا فِي ذَاكَ فَلَيْسُوا تَحْتَ سَيْطَرَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، فَإِذَا أَرَادَ عُلَمَاؤُهُمْ وَأَهْلُ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ فِيهِمْ ذَلِكَ نَفَذَ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ وَالَّذِينَ يَضَعُونَ هَذِهِ الْقَوَانِينَ الْمِصْرِيَّةَ يُوَافِقُونَ فِي أَكْثَرِهَا الشَّرْعَ وَيَبْنُونَ رَأْيَهُمْ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ بِحَسَبِ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُلْصِقُونَ رَأْيَهُمْ بِالشَّرْعِ كَالْفُقَهَاءِ، وَمُرَاعَاةُ الْمُصْلِحَةِ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ فِي الْمَنْصُوصِ وَفِي الْمَوْكُولِ إِلَى الرَّأْيِ، وَالنَّاسُ يَقْبَلُونَ آرَاءَ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْفِقْهِ، وَلَوْ فِيمَا يُخَالِفُ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ يُلْصِقُونَهَا بِالشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ يَدَّعُونَ أَنَّهَا اجْتِهَادٌ صَحِيحٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِهِ، وَلَكِنْ لَا اجْتِهَادَ مَعَ النَّصِّ، وَرُبَّمَا كَانَ الْعَامِلُ بِالرَّأْيِ- لَا يُسَمِّيهِ دِينًا- أَقَلَّ جِنَايَةً عَلَى الشَّرْعِ مِمَّنْ يَعْمَلُ بِالرَّأْيِ يُسَمِّيهِ دِينًا، وَلاسيما مَعَ وُجُودِ النَّصِّ.وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ مَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْبَلُوا قَوْلَ أَحَدٍ، أَوْ يَعْمَلُوا بِرَأْيِهِ فِي شَيْءٍ لَهُ حُكْمٌ فِي كِتَابِ اللهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةِ، إِلَّا فِيمَا رَخَّصَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ، وَمَا لَا حُكْمَ فِيهِمَا فَالْعَمَلُ فِيهِ بِرَأْيِ أُولِي الْأَمْرِ فِي كُلِّ زَمَنٍ بِشَرْطِهِ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ دَائِمًا بِرَأْيِ بَعْضِ الْمُؤَلِّفِينَ لِكُتُبِ الْفِقْهِ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ، هَذَا هُوَ مَا كَانَ يُرِيدُهُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الْعِبَارَةِ الَّتِي قَالَهَا فِي دَرْسِهِ بِالْأَزْهَرِ، وَمَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ، نَعَمْ إِنَّ مَنْ يَضَعُونَ الْأَحْكَامَ لِمَا لَا نَصَّ فِيهِ يُشْتَرَطُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِالنُّصُوصِ وَمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَعِلَلِهَا حَتَّى لَا يُخَالِفُوهَا وَلِيَتَيَسَّرَ لَهُمْ رَدُّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إِلَيْهَا، وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَقُولُ بِهَذَا أَيْضًا.وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ نِفَاقِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ عَنْ حُكْمِ كِتَابِ اللهِ، وَحُكْمِ رَسُولِهِ إِلَى حُكْمِ الطَّاغُوتِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ، وَنَاهِيكَ بِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُكْمُهُ لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا مَا بُيِّنَتِ الدَّعْوَى عَلَى حَقِيقَتِهَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَأَمَّا حُكْمُ غَيْرِهِ بِشَرِيعَتِهِ فَقَدْ يَقَعُ فِيهِ الْخَطَأُ بِجَهْلِ الْقَاضِي بِالْحُكْمِ، أَوْ بِتَطْبِيقِهِ عَلَى الدَّعْوَى، يَقُولُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَهُمْ يُرِيدُونَ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ: تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ لِنَعْمَلَ بِهِ وَنُحَكِّمَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَإِلَى الرَّسُولِ لِيَحْكُمَ بَيْنَنَا بِمَا أَرَاهُ اللهُ، رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ أَيْ رَأَيْتَهُمْ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ- جَاءَ بِالظَّاهِرِ بَدَلَ الضَّمِيرِ لِيُبَيِّنَ حَالَهُمْ وَحَالَ أَمْثَالِهِمْ بِالنَّصِّ وَيُبْنَى عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ أَثَرُهُ- يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا أَيْ: يُعْرِضُونَ عَنْكَ وَيَرْغَبُونَ عَنْ حُكْمِكَ إِعْرَاضًا مُتَعَمَّدًا مِنْهُمْ، وَهُوَ هُنَا مِنْ صَدَّ اللَّازِمِ، وَالْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِأَنَّ مَنْ صَدَّ وَأَعْرَضَ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ عَمْدًا وَلاسيما بَعْدَ دَعْوَتِهِ إِلَيْهِ وَتَذْكِيرِهِ بِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُنَافِقًا لَا يُعْتَدُّ بِمَا يَزْعُمُهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ حُجَّةُ اللهِ الْبَالِغَةُ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ لِبَعْضِ النَّاسِ فِيمَا اسْتَبَانَ حُكْمُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلاسيما إِذَا دُعُوا إِلَيْهِ وَوُعِظُوا بِهِ.
|